فصل: تفسير الآيات (49- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (49- 51):

{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)}
وقوله سبحانه: {تِلْكَ} إِشارة إِلى القصة، وباقي الآية بيِّنٍ.
وقوله عز وجل: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا...} الآية: عَطْفٌ على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} [هود: 25].

.تفسير الآيات (52- 59):

{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)}
وقوله: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ...} الآية: الاستغفار: طَلَبُ المغفرة، فقَدْ يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإِنابة القَلْب وطَلَب الاسترشاد.
وقوله: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ}، أي: بالإِيمان من كُفْركم، والتوبَةُ: عقْدٌ في ترك مَتُوبٍ منه، يتقدَّمها علْمٌ بفساد المَتُوب مِنْه، وصلاحٍ ما يَرْجِعُ إِليه، ويقترن بها نَدَمٌ على فَارِطِ المَتُوبِ منه، لا يَنْفَكُّ منه، وهو من شروطها و{مِّدْرَاراً} بناءُ تكثير، وهو مِنْ دَرَّ يَدُرُّ، وقد تقدَّمت قصة عاد.
وقوله سبحانه: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} ظاهره العمومُ في جميع ما يُحْسِنُ اللَّه تعالى فيه إِلى العباد، ويحتملُ أَنْ خَصَّ القوة بالذكْرِ، إِذا كانوا أَقْوَى العَوَالِمِ، فوُعِدُوا بالزيادَةِ فيما بَهَرُوا فيه، ثم نهاهُمْ عن التولِّي عن الحقِّ، وقولهم: {عَن قَوْلِكَ}، أي: لا يكونُ قولُكَ سَبَبَ ترْكِنا، وقال * ص *: {عَن قَوْلِكَ}: حالٌ من الضمير في تاركي، أي: صادِرِينَ عن قولك، وقيل: {عن}: للتعليل، كقولهِ: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ} [التوبة: 114] وقولهم: {إِن نَّقُولُ...} الآية: معناه: ما نَقُولُ إِلا أَن بعض آلهتنا التي ضَلَّلْتَ عَبَدَتَهَا أَصابَكَ بجُنُونٍ، يقال: عَرَّ يَعُرُّ، واعترى يَعْتَرِي؛ إِذا أَلمَّ بالشيء.
وقوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا}: أي: أنتم وأصنامكم، ويذكر أن هذه كَانَتْ له عليه السلام معجزةً، وذلك أنَّه حرَّض جماعتهم عَلَيْه مع انفراده وقوَّتهم وكُفْرهم، فلم يَقْدِروا علَى نيله بسُوءٍ، و{تَنظِرُونَ}: معناه: تؤخِّروني، أيْ: عاجلوني بما قَدَرْتم عليه.
وقوله: {إِنَّ رَبِّي على صراط مُّسْتَقِيمٍ} يريد: إِن أفعالَ اللَّه عزَّ وجلَّ في غاية الإِحكام، وقوله الصِّدْقُ ووعَده الحَقُّ، و{عَنِيدٍ}: من عند إِذا عَتَا.

.تفسير الآيات (60- 66):

{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)}
وقوله سبحانه: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً...} الآية: حَكَمَ عليهم سبحانه بهذا؛ لموافاتهم على الكُفْر، ولا يُلْعَنُ معيَّنٌ حُيٌّ: لا مِنْ كافرٍ، ولا من فاسقٍ، ولا من بهيمةٍ، كلُّ ذلك مكروهٌ بالأحاديث.
* ت *: وتعبيره بالكراهَةِ، لعلَّه يريد التحريمَ، {وَيَوْمَ}: ظَرفٌ، ومعناه: إِن اللعنة علَيْهم في الدُّنيا، وفي يوم القيامة، ثم ذكَر العلَّة الموجِبَةَ لذلك، وهي كُفْرهم بربهم، وباقي الآية بيِّن.
وقوله عز وجل: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا...} الآية: التقديرُ: وأرسلنا إِلى ثمودَ و{أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض}: أي: اخترعكم، وأوْجَدكم، وذلك باختراع آدم عليه.
وقال * ص *: {مِّنَ الأرض}: لابتداءِ الغاية باعتبار الأصلِ المتولَّدِ منه النباتُ المتولَّدُ منه الغذاءُ المتولَّدُ منه المَنِيُّ ودَمُ الطَّمْثِ المتولَّدُ عنه الإِنسان. انتهى.
وقد نقل * ع *: في غير هذا الموضع نَحْوَ هذا، ثم أشار إِلى مرجوحيَّته، وأَنَّه داعٍ إِلى القول بالتولُّد، قال ابنُ العَرَبِيِّ في أحكامه: قوله تعالى: {واستعمركم فِيهَا}: أي: خَلَقَكم لعمارتها، ولا يصحُّ أنْ يقال: هو طَلَبٌ من اللَّه لعمارتها؛ كما زعم بعضُ الشَّافعيَّة.
* ت *: والمفهومُ من الآية أنَّها سيقَتْ مساق الامتنان عليهم. انتهى. وقولهم: {ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا}، قال جمهور المفسِّرين: معناه: مسوَّداً نؤمِّل فيك أنْ تكون سيِّداً سادًّا مسدَّ الأكابِرِ، وقولهم: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}، معنى: {مُرِيبٍ}: مُلْبِس متهم، وقوله: {أَرَءَيْتُمْ}: أي: أتدبرتم، فالرؤية قلبيَّةٌ، و{آتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}، يريد: النبوَّة وما انضاف إِليها.
وقال * ص *: قد تقرَّر في {أَرَءَيْتُمْ}؛ أنها بمعنى أخبروني. انتهى.
وال {تَخْسِيرٍ} هو من الخسَارَةِ، وليس التخْسِيرُ في هذه الآية إِلا لهم، وفي حَيِّزِهم، وهذا كما تقولُ لمن تُوصِيهِ: أَنا أريدُ بكَ خَيْراً، وأَنْتَ تريدُ بي شَرًّا.
وقال * ص *: {غَيْرَ تَخْسِيرٍ}: من خَسِرَ، وهو هنا للنسبيَّةِ ك فَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ؛ إِذا نسبتَهُ إِليهما.
* ت *: ونقل الثعلبيّ عن الحسيْنِ بْنِ الفَضْل، قال: لم يكُنْ صَالِحٌ في خسارةٍ، حين قال: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}، وإِنما المعنى: ما تزيدُونَني بما تقولُونَ إِلاَّ نسبتي إِياكم للخَسَارة، وهو مِنْ قول العرب: فَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ؛ إِذا نسبته إِلى الفسوق والْفُجور. انتهى. وهو حسنٌ. وباقي الآية بيِّن قد تقدَّم الكلامُ في قصصها.

.تفسير الآيات (67- 74):

{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)}
{وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة}: قال أبو البقاء: في حَذْف التاءِ من {أخذ} ثلاثةُ أَوْجُهٍ:
أحدها: أنه فَصَلَ بين الفعل والفاعل.
والثاني: أن التأنيثَ غير حقيقيٍّ.
والثالث: أن الصيْحَة بمعنى الصِّيَاحِ، فحُمِلَ على المعنى، انتهى.
وقد أشار * ع *: إِلى الثلاثَة، واختار الأخير.
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى}: الرسُلُ: الملائكة، قال المَهْدوِيُّ: {بالبشرى} يعني: بالولدِ، وقيل: البُشْرَى بهلاك قومِ لوطٍ انتهى.
{قَالُواْ سَلاَماً}: أي: سلَّمنا عليك سلاماً، وقرأ حمزة والكسائي: {قَالُوا سَلاَماً قالَ سِلْمٌ}، فيحتمل أنْ يريد ب السِّلْمِ السلامَ، ويحتمل أن يريد ب السِّلْم ضدَّ الحرب، و{حَنِيذٍ}: بمعنى: محنوذ، ومعناه: بعجْلٍ مشويٍّ نَضِجٍ، يقْطُر ماؤه، وهذا القَطْر يفصلُ الحَنيذَ من جملة المشويَّات، وهيئة المحنُوذِ في اللغة: الذي يُغَطَّى بحجارةٍ أو رَمْلٍ مُحَمًّى أو حائل بينه وبيْن النَّار يغطى به، والمُعَرَّض: من الشِّواء الذي يُصَفَّف على الجَمْر، والمُضَهَّبِ: الشِّوَاءُ الذي بينه وبين النَّار حائلٌ، ويكون الشِّواء عليه، لا مَدْفُوناً به، والتَّحُنِيذُ في تضمير الخَيْل: هو أنْ يغطَّى الفَرَس بِجِلٍّ على جُلٍّ؛ ليتصبَّب عَرَقُه، و{نَكِرَهُمْ} على ما ذكر كثيرٌ من النَّاس، معناه: أَنْكَرهم {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}؛ من أجْل امتناعهم من الأكل؛ إِذ عُرْفُ مَنْ جاء بِشَرٍّ أَلاَّ يأْكل طعامَ المنْزُولِ به، قال ابنُ العربيِّ في أحكامه: ذهب الليثُ بْنُ سَعْدٍ إِلى أَنَّ الضِّيَافَةَ واجِبَةٌ، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخَرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، ومَا وَرَاءَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ»، وفي رواية: «ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يثوي عنْدَهُ حتَّى يُحْرِجَهُ» وهذا حديثٌ صحيحٌ، خرَّجه الأئمةِ، واللفظ للترمذيِّ، وذهب علماء الفقْه إِلى: أن الضيافة لا تجبُ، وحملوا الحديثَ على النَّدْب.
قال ابنُ العربيِّ: والذي أقولُ به أن الضيافَةَ فَرْضٌ على الكفَايَةِ، ومِنَ الناسِ مَنْ قال: إِنها واجبةٌ في القُرَى حيثُ لا مَأْوَى ولا طَعَام؛ بخلاف الحواضِرِ؛ لتيسُّر ذلك فيها.
قال ابنُ العربيِّ: ولا شكَّ أن الضيْفَ كريمٌ، والضِّيافة كرامَةٌ، فإِن كان عديماً، فهي فريضةٌ انتهى، و{أَوْجَسَ} معناه: أحس والوجيسُ: ما يعتري النفْسَ عنْد الحَذَرِ، وأوائلِ الفَزَعِ.
وقوله سبحانه: {فَضَحِكَتْ} قال الجمهور: هو الضَّحِكُ المعروفُ، وذكر الطبري أن إِبراهيم عليه السلام لَمَّا قَدَّم العجْل، قالوا له: إِنَّا لا نأكل طعاماً إِلاَّ بثمنٍ، فقال لهم: ثمنُهُ: أنْ تذْكُروا اللَّه تعالَى عليه في أَوَّله، وتَحْمَدوه في آخره، فقال جبريلُ لأصحابه: بحَقٍّ اتخذ اللَّهُ هَذَا خَلِيلاً، ثم بَشَّر الملائكةُ سَارَّة بإِسحاق، وبأَنَّ إِسحاقَ سَيَلِدُ يعقُوبَ، ويسمَّى ولَدُ الوَلَد وراء، وهو قريبٌ من معنى وراء في الظرف، إِذ هو ما يكونُ خَلْف الشيء وبَعْده.
وقال * ص *: وراء؛ هنا: استعمل غَيْرَ ظرفٍ، لدخولِ مِنْ عليه، أي: ومِنْ بَعْدِ إِسحاق. انتهى.
وقولها: {ياويلتي}: الألفُ بَدَلٌ من ياء الإِضافة، أصلها: يَا وَيْلَتِي، ومعنى: يَا وَيْلَتَا في هذا الموضع: العبارةُ عَمَّا دَهَمَ النَّفْسَ من العَجَبِ في ولادةِ عَجُوزٍ، و{مِنْ أَمْرِ الله}: واحدُ الأمور.
وقوله سبحانه: {رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت}: يحتمل أنْ يكون دعاءً، وأنْ يكون خبراً.
* ص *: ونصبُ {أَهْلَ البيت} على النداءِ أو على الاختصاص، أو على المَدْحِ، انتهى. وهذه الآية تعطي أَنَّ زوجة الرجل مِنْ أَهْلِ بيتِهِ.
* ت *: وهي هُنَا منْ أهْل البيت على كلِّ حال، لأنها من قرابَتِهِ، وابنة عَمِّه، و{الْبَيْتُ}، في هذه الآية، وفي سورة الأحزاب ؤ بيتُ السكْنَى.
وقوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع وَجَاءَتْهُ البشرى يجادلنا}: أي: أخذ يُجادِلُنا في قومِ لوطٍ.

.تفسير الآيات (75- 76):

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}
وقوله تعالى: {إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} وُصِفَ عليه السلام بالحِلْمِ، لأنه لم يغضَبْ قطُّ لنفسه إِلاَّ أَنْ يغضب للَّه، وأمْرُهُ بالإِعراض عن المُجَادلة يقتضي أنها إِنَّما كانَتْ في الكَفَرَةِ، حرصاً على إِسلامهم، و{أَمْرُ رَبِّكَ} واحدُ الأمور، أي: نفذ فيهم قضاؤُهُ سبحانه، وهذه الآية مقتضيةٌ أنَّ الدعاء إِنما هو أنْ يوفِّق اللَّه الداعِيَ إِلى طَلَب المَقْدور، فأما الدُّعاء في طَلَبِ غير المقدورِ، فغير مُجْدٍ ولا نافع.
* ت *: والكلام في هذه المسألة متَّسعٌ رَحْبٌ، ومن أحسن ما قيل فيها قولُ الغَزَّالِيِّ في الإِحياء: فإِنْ قلْتَ: فما فائدةُ الدُّعاءِ، والقَضَاءُ لا يُرَدُّ؟ فالجوابُ: أَنَّ من القضاءِ رَدَّ البلاءِ بالدعاءِ، فالدعاءُ سَبَبٌ لردِّ البلاء، واستجلاب الرحمة؛ كما أن التُّرْسَ سبَبٌ لردِّ السهم، والماء سبَبٌ لخروجِ النباتِ، انتهى. وقد أطال في المسألة، ولولا الإِطالة لأَتَيْتُ بِنُبَذٍ يثلج لها الصِدْرُ، وخرَّجَ الترمذيُّ في جامعه عن أبي خزامة، واسمه رِفَاعَةُ، عن أبيه، قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رقًّى نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، وتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّه شَيْئاً؟ قَالَ: «هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ»، قال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسن، وفي بعض نُسَخِهِ: حسنٌ صحيحٌ، انتهى. فليس وراء هذا الكلام من السيِّد المعصوم مرمًى لأَحدٍ، وتأمَّل جواب الفارُوق لأبِي عُبَيْدة، حِينَ هَمَّ بالرجوعِ مِنْ أجْلِ الدخول علَى أرْضٍ بها الطاعُونُ، وهي الشام.

.تفسير الآيات (77- 83):

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}
وقوله سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً}: الرسُل هنا: الملائكة أضيافُ إِبراهيم.
قال المهدويُّ: والرسُلُ هنا: جبريلُ وميكائيلُ وإِسرافيلُ، ذكره جماعة من المفسِّرين. انتهى، واللَّه أعلم بتعيينهم، فإِن صحَّ في ذلك حديثٌ، صِيَر إِليه، وإِلا فالواجبُ الوقْفُ، و{سِيءَ بِهِمْ} أي: أصابهُ سُوءٌ، والذَّرْع: مصدرٌ مأخوذٌ من الذِّراع، ولما كان الذراعُ موضعَ قُوَّةِ الإِنسان، قيل في الأمر الذي لا طَاقَةَ له به: ضَاقَ بِهَذَا الأمْرِ ذِرَاعُ فُلاَنٍ، وذَرْعُ فلانٍ، أيْ: حيلته بذراعِهِ، وتوسَّعوا في هذا حتَّى قلبوه، فقالوا: فلانٌ رَحْبُ الذِّرَاع، إِذا وصَفُوه باتساع القدرةِ، و{عَصِيبٌ}: بناء اسمِ فاعلٍ، معناه: يعصب النَّاسَ بالشرِّ، فهو من العِصَابة، ثم كَثُر وصفهم لليَوْمِ بعصيبٍ؛ ومنه: [الوافر]
....................... ** وَقَدْ سَلَكُوكَ في يَوْمٍ عَصِيبِ

وبالجملة ف {عصيب}: في موضع شديدٍ وصعبِ الوطأة، و{يُهْرَعُونَ} معناه: يُسْرِعون، {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات}: أيْ: كَانت عادتهم إِتيان الفاحشة في الرجال.
وقوله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}: يعني: بالتزويجِ، وقولهم: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}: إِشارة إِلى الأضيافِ، فلما رأَى لوطٌ استمرارهم في غَيِّهم، قال: على جهة التفجُّع والاستكانة: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}.
قال * ع *: {لَوْ أنَّ}: جوابها محذوفٌ، أي: لَفَعَلْتُ كذا وكذا، ويروَى أنَّ الملائكةَ وَجَدَتْ عليه؛ حين قال هذه الكلماتِ، وقالوا: إِنَّ رُكْنَكَ لَشَدِيدٌ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطاً لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ فَالْعَجَبُ مِنْهُ لما استكان». قال * ع *: وإِنما خشي لوطٌ عليه السلام أنْ يمهل اللَّهُ أولئك العِصَابَةَ حتى يَعْصُوهُ في الأضيافِ، كما أمهلهم فيما قَبْلَ ذلك، ثم إِن جبريل عليه السلام ضَرَبَ القوم بجَنَاحِهِ، فطمس أعينهم، ثم أمروا لوطاً بالسُّرَى، وأعلموه بأنَّ العذاب نازلٌ بالقوم، فقال لهم لوطٌ: فَعَذِّبوهم السَّاعة، فقالوا له: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح}، أي: بهذا أمَرَ اللَّه، ثم آنسُوه في قَلَقِهِ بقولهم: {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ}، والقِطْع: القطعة من الليل.
قال * ص *: {إِلاَّ امرأتك}: ابن كثيرٍ وأبو عمرٍو بالرفع، والباقون بالنَّصْبِ، فقيل: كلاهما استثناءٌ من {أَحَدٌ}، وقيل: النصب على الاستثناء من {أَهْلِكَ} انتهى.
وقوله سبحانه: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} ذهبت فرقةٌ، منهم ابن عباس إِلى أَن الحجارة التي رُمُوا بها كَانَتْ كالآجُرِّ المطبوخِ، كانَتْ من طينٍ قد تحجَّر، وأَن سِجِّيلاً معناها: ماءٌ وطينٌ، وهذا القول هو الذي عليه الجمهورُ، وقالت فرقة: {من سِجِّيلٍ}: معناه: مِنْ جهنَّم؛ لأنه يقالُ: سِجّيل وسِجِّين، حَفِظَ فيها بَدَلَ النُّون لاماً، وقيل غير هذا و{مَّنضُودٍ}: معناهُ: بعضه فوق بعض، متتابع، و{مُّسَوَّمَةً}: أي: مُعْلَمةٌ بعلامة.
وقوله تعالى: {وَمَا هِيَ}: إِشارةٌ إِلى الحِجَارة، والظالمون: قيل: يعني قريشاً، وقيل: يريد عمومَ كلِّ مَن اتصف بالظُّلْمِ، وهذا هو الأصَحُّ، وقيل: يعني بهذا الإِعلامَ بأَنَّ هذه البلادَ قريبةٌ من مكَّة، وما تقدَّم أَبْيَن.